روائع مختارة | قطوف إيمانية | في رحاب القرآن الكريم | التأمل في القرآن.. خلق السموات والأرض (2)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > قطوف إيمانية > في رحاب القرآن الكريم > التأمل في القرآن.. خلق السموات والأرض (2)


  التأمل في القرآن.. خلق السموات والأرض (2)
     عدد مرات المشاهدة: 6491        عدد مرات الإرسال: 0

في رحلتنا السابقة مع آيات التأمل في القرآن الكريم تفيأنا ظلال آية {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار...} الآية [البقرة: 164].

ولا تزال رحلتنا للتأمل في آيات القرآن الكريم مستمرة بمشيئة الله تعالى لذا سنبحر نحو سورة وآيات أخري من سور القرآن الكريم وآياته.

محطتنا الأولى ستكون مع آيتين هما من أعظم الآيات الدالة والحاثة على التأمل في الخلق وحين نزلت هذه الآيات على رسولنا صلى الله عليه وسلم قام من الليل فبكى بكاء شديدًا كما روي عن عطاء قال: دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة رضي الله عنها، فقال عبد الله بن عمير: حدثينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكت وقالت: قام ليلة من الليالي، فقال: يا عائشة! ذريني أتعبد لربي، قالت: قلت: والله إني لأحب قربك، وأحب ما يسرك، قالت: فقام فتطهر، ثم قام يصلي، فلم يزل يبكي حتى بل حجره، ثم بكى، فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، وجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله! تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: «أفلا أكون عبدا شكورا؟ لقد نزلت علي الليلة آيات، ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: {إن في خلق السماوات والأرض} [آل عمران]» (1).

هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أحب مخلوق عند الله عز وجل يبكي من وقع تلك الآيات العظيمات وما حوته من دلائل الإيمان وهي تشير إلى من يدبره بحكمته وتوحي بأن وراء هذا كله حياة أخرى فيها حساب وجزاء لكن من الذي يدرك ذلك كله إنهم أولوا الألباب الذي لا تمر عليهم مثل هذه الآيات وهم غافلون بل تزيدهم إيمانًا إلى إيمانهم معرفة إلى معرفتهم.

من هنا نعرف معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها، نعم إنه تهديد ووعيد لأصحاب القلوب الغافلة التي هي عن التأمل في آيات الله سادرة فأما أصحاب القلوب المؤمنة فلا يمكن أن تمر عليهم مثل هذه الآيات وهم عنها متشاغلون.

ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ هذه الآيات العشر من آخر آل عمران إذا قام من الليل لتهجده، فعن ابن عباس قال: بت عند خالتي ميمونة، فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة ثم رقد، فلما كان ثُلث الليل الآخر قَعد فنظر إلى السماء فقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ} ثم قام فتوضأ واستن. فصلى إحدى عَشْرَة ركعة. ثم أذّن بلالٌ فصلى ركعتين، ثم خرج فصلى بالناس الصبح (2).

وإذا التفتنا إلى سلفنا الصالح رأينا عجبًا فهذا الشيخ أبو سليمان الداراني يقول: إني لأخرجُ من منزلي، فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله عَلَي فيه نِعْمَة، أوْ لِي فيه عِبْرَة.

وعن الحسن البصري أنه قال: تَفَكُّر سَاعَة خير من قيام ليلة.

وقال الفُضَيل: قال الحسن: الفكرة مِرْآة تريك حَسنَاتك وسيئاتك.

وقال سفيان بن عيينة: الفكرة نور يدخل قلبك. وربما تمثل بهذا البيت:

إذا المرء كانت له فكْرَةٌ *** ففي كل شيء له عبرَة

وعن عيسى، عليه السلام، أنه قال: طُوبَى لمن كان قِيلُه تذكّرًا، وصَمْته تَفكُّرًا، ونَظَره عبرًا.

وقال لقمان الحكيم: إن طول الوحدة ألْهَمُ للفكرة، وطولَ الفكْرة دليل على طَرْق باب الجنة.

وقال وهب بن مُنَبِّه: ما طالت فكرة امرِئ قط إلا فهم، وما فهم امرؤ قط إلا علم، وما علم امرؤ قط إلا عمل.

وقال عمر بن عبد العزيز: الكلام بذكر الله، عز وجل، حَسَن، والفكرة في نعم الله أفضل العبادة.

وقال مغيث الأسود: زوروا القبور كل يوم تفكركم، وشاهدوا الموقف بقلوبكم، وانظروا إلى المنصرف بالفريقين إلى الجنة أو النار، وأشعروا قلوبكم وأبدانكم ذكر النار ومقامعها وأطباقها، وكان يبكي عند ذلك حتى يُرْفع صَريعا من بين أصحابه، قد ذهب عقله.

وقال عبد الله بن المبارك: مَرَّ رجل برَاهبٍ عند مَقْبَرة ومَزْبَلَة، فناداه فقال: يا راهب، إن عندك كَنزين من كنوز الدنيا لك فيهما مُعْتَبَر، كنز الرجال وكنز الأموال.

وعن ابن عمر: أنه كان إذا أراد أن يتعاهد قلبه، يأتي الخَرِبة فيقف على بابها، فينادي بصوت حزين فيقول: أين أهْلُك؟ ثم يرجع إلى نفسه فيقول: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} [القصص: 88].

وعن ابن عباس أنه قال: ركعتان مقتصدتان في تَفكُّر، خير من قيام ليلة والقلب ساه.

وقال الحسن: يا ابن آدم، كُلْ في ثلث بطنك، واشرب في ثلثه، ودع ثلثه الآخر تتنفَّس للفكرة.

وقال بعض الحكماء: من نظر إلى الدنيا بغير العبرة انطَمَسَ مِنْ بَصَرِ قلبه بقدر تلك الغَفْلَة.

وقال بِشْر بن الحارث الحافي: لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى لما عصوه.

وقال الحسن، عن عامر بن عبد قيس قال: سمعت غير واحد ولا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: إن ضياء الإيمان، أو نور الإيمان، التفكر.

وعن عيسى، عليه السلام، أنه قال: يا ابن آدم الضعيف، اتق الله حيثما كنت، وكُنْ في الدنيا ضَيْفًا، واتَّخِذِ المساجدَ بيتا، وعَلِّم عينيك البكاء، وجَسَدك الصَّبْر، وقلبك الفِكْر، ولا تهتم برزق غد.

وعن أمير المؤمنين عُمَرَ بن عبد العزيز، رضي الله عنه، أنه بكى يوما بين أصحابه، فسُئل عن ذلك، فقال: فَكَّرت في الدنيا ولذاتها وشهواتها، فاعتبرت منها بها، ما تكاد شهواتها تَنْقَضي حتى تكدرها مرارتُها، ولئن لم يكن فيها عبرة لمن اعتبر إن فيها مواعظ لمن ادّكر.

وقال ابن أبي الدنيا: أنشدني الحُسَين بن عبد الرحمن:

نزهَة المؤمن الفكَرْ *** لذّة المؤمن العِبرْ

نحمدُ اللهَ وَحْدَه *** نحْنُ كل عَلَى خَطَرْ

رُبّ لاهٍ وعُمْرُه *** قد تَقَضّى وما شَعَرْ

رُبّ عيش قَدْ كَانَ فو *** ق المُنَى مُونقَ الزَهَرْ

في خَرير من العيُو*** ن وَظل من الشَّجَرْ

وسُرُور من النَّبا *** ت وَطيب منَ الثَمَرْ

غَيَّرَتْه وَأهْلَهُ *** سرعةُ الدّهْر بالغَيرْ

نَحْمَد الله وحده *** إنّ في ذا لمعتبر

إن في ذَا لَعبرةً *** للبيب إن اعْتَبَرْ

نعم إن في ذا لعبرة للبيب إن اعتبر وما أجمل ما قاله الغزالي رحمه الله في الإحياء إذ يقول عن التفكر في السموات: ولا تظنن أن معنى النظر إلى الملكوت بأن تمد البصر إليه فترى زرقة السماء وضوء الكواكب وتفرقها فإن البهائم تشاركك في هذا النظر فإن كان هذا هو المراد فلم مدح الله تعالى إبراهيم بقوله وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض لا بل كل ما يدرك بحاسة البصر فالقرآن يعبر عنه بالملك والشهادة وما غاب عن الأبصار فيعبر عنه بالغيب والملكوت والله تعالى عالم الغيب والشهادة وجبار الملك والملكوت ولا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء وهو عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فأجل أيها العاقل فكر في الملكوت فعسى يفتح لك أبواب السماء فتجول بقلبك في أقطارها إلى أن يقوم قلبك بين يدي عرش الرحمن فعند ذلك ربما يرجى لك أن تبلغ رتبة عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث قال رأى قلبي ربي وهذا لأن بلوغ الأقصى لا يكون إلا بعد مجاوزة الأدنى وأدنى شيء إليك نفسك ثم الأرض التي هي مقرك ثم الهواء المكتنف لك ثم النبات والحيوان وما على وجه الأرض ثم عجائب الجو وهو ما بين السماء والأرض ثم السموات السبع بكواكبها ثم الكرسي ثم العرش ثم الملائكة الذين هم حملة العرش وخزان السموات ثم منه تجاوز إلى النظر إلى رب العرش والكرسي والسموات والأرض وما بينهما فبينك وبين هذه المفاوز العظيمة والمسافات الشاسعة والعقبات الشاهقة وأنت بعد لم تفرغ من العقبة القريبة النازلة وهى معرفة ظاهر نفسك ثم صرت تطلق اللسان بوقاحتك وتدعى معرفة ربك وتقول قد عرفته وعرفت خلقه ففي ماذا أتفكر إلى ماذا أتطلع فارفع الآن رأسك إلى السماء وانظر فيها وفى كواكبها وفى دورانها وطلوعها وغروبها وشمسها وقمرها واختلاف مشارقها ومغاربها ودءوبها في الحركة على الدوام من غير فتور في حركتها ومن غير تغير في سيرها بل تجرى جميعا في منازل مرتبة بحساب مقدر لا يزيد ولا ينقص إلى أن يطويها الله تعالى طي السجل للكتاب وتدبر عدد كواكبها وكثرتها واختلاف ألوانها فبعضها يميل إلى الحمرة وبعضها إلى البياض وبعضها إلى اللون الرصاصي ثم انظر كيفية أشكالها فبعضها على صورة العقرب وبعضها على صورة الحمل والثور والأسد والإنسان وما من صورة في الأرض إلا ولها مثال في السماء..... فهذه السماء بعظمها وكثرة كواكبها لا تنظر إليها بل انظر إلى بارئها كيف خلقها ثم أمسكها من غير عمد ترونها ومن غير علاقة من فوقها وكل العالم كبيت واحد والسماء سقفه (3).

وفي نهاية هذا المقال عد بالنظر إلى الآية الكريمة سترى كيف قرن الله بين عبادة الجسد وعبادة العقل ومنها التأمل والتفكر في آياته {... الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا ويتفكرون في خلق السموات والأرض...} الآية.

وفي الآية دلالة واضحة أيضًا على تلازم الإيمان والعمل فلا إيمان بلا عمل فأهل الإيمان هم أهل الطاعة والعبادة والذكر والإخبات نسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم منهم.

-----------------

(1) صحيح ابن حبان (2/ 336 رقم 620) وصححه الألباني في السلسة الصحيحة

(2) البخاري (4/ 1655 رقم 4293) ومسلم (1/ 530 رقم 763).

(3) إحياء علوم الدين (7/ 126) وما بعدها.

الكاتب: عبد الله جحيش.

المصدر: موقع رسالة الإسلام.